Saturday, February 21, 2015

عن الغفران والانتقام والقصاص في المسيحية

قالت والدة تواضروس يوسف، أحد ضحايا مذبحة المصريين المختطفين في ليبيا على يد تنظيم داعش الإرهابي: "ربنا يسامح القتلة على اللي عملوه، وهدعي عليهم ليه، ربنا يهديهم وينور مخهم من الشر..."

الحقيقة كلام الست البسيطة دي ما هو إلا جوهر تعاليم المسيحية (الآبائية اللي ورثناها عن الرسل وآباء الكنيسة الأولى) عن الغفران والانتقام. وممكن نقرا أول سطرين دول ومانقولش حاجة تاني. بس خلينا نستفيض...

من فترة كنت عايزة اتكلم عن ردود الأفعال المسيحية من الناحية "الدينية" عن مذبحة الأقباط في ليبيا، خصوصا بعد ما قريت تصريحات زي "الضربة شفت غليلنا ومسحت دموعنا". أنا كان ممكن أتقبل التصريحات دي من أي حد عادي أو حتى  من أهالي الضحايا المجروحين، لكن مش من أشخاص بتمثل المسيحية، وده لأن فكرة الانتقام من حد تسبب في أذى مش موجودة في المسيحية، ولا حتى الانتقام الموجه من ربنا على البشر، ومش مفروض يكون جوا الانسان المسيحي "غليل" من حد من أساسه. في رأيي الشخص الوحيد اللي عبر عن وجهة نظر مسيحية سليمة هو الأنبا أنجيلوس أسقف انجلترا اللي قال "أنا أسامح الفعلة ولا أسامح الفعل" مع تأكيده إن الناس لازم تدافع عن حقوق بعض احتراما لحرمة الحياة الانسانية.




محبة الله للأشرار

للأسف في ناس من كتر ما هي متمسكة بأفكار الانتقام مش بتقدر تصدق ازاي ربنا ممكن يحب ناس زي داعش مثلا. الفكرة إن الانسان إختار الشر بعيد عن إرادة ربنا له، وبالتالي ربنا هايفضل دايما بيحاول يرجع البشر دي للخير، ولو تابوا، ربنا هايفرح بيهم أكتر منك (أه تخيل!) " أقول لكم: إنه هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين بارا لا يحتاجون إلى توبة. أو أية امرأة لها عشرة دراهم، إن أضاعت درهما واحدا، ألا توقد سراجا وتكنس البيت وتفتش باجتهاد حتى تجده، وإذا وجدته تدعو الصديقات والجارات قائلة: افرحن معي لأني وجدت الدرهم الذي أضعته. هكذا، أقول لكم: يكون فرح قدام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب" (لوقا 15: 7-10)

" فلما نظر الفريسيون قالوا لتلاميذه: لماذا يأكل معلمكم مع العشارين والخطاة؟ فلما سمع يسوع قال لهم: لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى. فاذهبوا وتعلموا ما هو: إني أريد رحمة لا ذبيحة، لأني لم آت لأدعو أبرارا بل خطاة إلى التوبة" (متى 9: 11-13). وده أحد الأسباب الدينية اللي أنا شخصيا بارفض بسببها عقوبة الاعدام، لأن مش من حقي أخد من شخص فرصة للتوبة لو قعد في السجن مثلا يراجع نفسه، زي اللص اليمين اللي تاب في آخر لحظه في حياته (لوقا 23: 42، 43)، وشاول الطرسوسي اللي ربنا حوله بحكمته ومحبته له لبولس الرسول، وكان ممكن بنفس منطق الانتقام البشري يهلك شاول ويعاقبه على اضطهاده للمسيحيين.

عشان كده ماينفعش نطلب من ربنا يفكر بطريقتنا، هو طريقته مش هلاك الأشرار لكن خلاص الأشرار"رحمة لا ذبيحة"، وده المنطق اللي المفروض نكون احنا كمان بنفكر بيه. القديس يوحنا ذهبي الفم بيقول " لست أريد أن يخلص الكثيرون بل الكل، فإن بقى واحد في الهلاك أهلك أنا أيضًا. يبدو لي أنه يجب الإقتداء بالراعي الذي له التسعة والتسعون خروفًا لكنه أسرع وراء الخروف الضال"، وفي القداس الاغريغوري بنقول " سعيت في طلب الضال... كنور حقيقي أشرقت للضالين وغير العارفين"، لأن ربنا رحيم على الكل، وبيحب الكل: "محبة أبدية أحببتك، من أجل ذلك أدمت لك الرحمة" (أرميا 31: 3)

المسيح نفسه كان صديق للخطاه في زمنه، زي السامرية، متى العشار، زكا العشار، ... وطبعا في آيات كلاسيكية جدا في الكتاب المقدس عن محبة اللي بيغلطوا في حقنا، اللي هما "الأعداء"، للأسف تحول معظمها لشعارات بنقولها مش مؤمنين بيها من قلوبنا، وأكيد مش بننفذها، بس خلينا نتأملها كده للحظات...

"سمعتم أنه قيل: تحب قريبك وتبغض عدوك. وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات، فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين. لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم، فأي أجر لكم؟" (متى 5: 43-46)

" باركوا على الذين يضطهدونكم. باركوا ولا تلعنوا...  لا تجازوا أحدا عن شر بشر فإن جاع عدوك فأطعمه، وإن عطش فاسقه. لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه. لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير" (رومية 12).  والقديس جيروم بيقول عن الآية دي إننا بنجمع جمر نار على رأس العدو " لا بطريق اللعنة والإدانة كما يظن غالبية الناس وإنما بتهذيبه وجذبه إلى التوبة، فيغلبه الحنو، ويذوب بدفء الحب، فلا يصير بعد عدوًا" ودي نفس الطريقة اللي ربنا بيستخدمها مع البشر.

أمثلة عن الغفران

أهم أمثلة عن الغفران قدمها المسيح بنفسه لما بطرس قطع بالسيف أذن ملخس عبد رئيس الكهنة "وضرب واحد منهم عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمنى. فأجاب يسوع وقال: دعوا إلىّ هذا! ولمس أذنه وأبرأها" (لوقا 22: 50، 51)، وطبعا على الصليب "فقال يسوع: يا أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون"  (لوقا 23: 34).

حتى لو احنا كبشر مش قادرين نمارس الغفران ده، بس ده الحالة المثالية اللي المفروض نوصل لها. وفي ناس تانية وصلولها، زي مثلا استفانوس أول الشمامسة في سفر أعمال الرسل " فكانوا يرجمون استفانوس وهو يدعو ويقول: أيها الرب يسوع اقبل روحي. ثم جثا على ركبتيه وصرخ بصوت عظيم: يا رب، لا تقم لهم هذه الخطية. وإذ قال هذا رقد" (أعمال 7: 59، 60)

الأمثلة دي مش مجرد من الكتاب المقدس لكن كمان من حياتنا المعاشة. البابا يوحنا بولس الثاني تعرض لمحاولة اغتيال واتصاب برصاصة في 1981 في معدته، واللي نفذ العملية اتحكم عليه بالسجن مدى الحياة. البابا يوحنا لما تعافى راح زار الراجل في السجن واتكلم معاه وقال "ما تحدثنا عنه يجب أن يبقى سرًا بيني وبينه، تحدثت معه باعتباره شقيق، وقد عفوت له ولي كامل الثقة في ذلك". مهم قوي نلاحظ هنا إنه مثلا ماطلبش إن الشخص ده يخرج من السجن، لأنه عمل فعل ضد الإنسانية ومحتاج سلوكه يقوم، لكنه سامح الشخص والنتائج اللي ترتبت على جريمته، ماسامحش الجريمة في حد ذاتها، وماتساهلش في أهمية تقويم سلوك الجاني.

الله المنتقم

في طبعا كلام كتير عن انتقام ربنا وغضبه وعقابه للخطاه " لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء، بل أعطوا مكانا للغضب، لأنه مكتوب: لي النقمة أنا أجازي، يقول الرب" (رومية 12: 19)، وزي فكرة إن ربنا أفنى سدوم وعمورة وقصة فلك نوح وغيره، وده فعلا موضوع كبير يمكن مش هاقدر أغطيه هنا بكلمتين، عشان كده هأشير لمراجع مهمة جدا.

التفسيرات الآبائية للقصص دي بتعتمد على إن النص مكتوب بطريقة تقرب للإنسان صفات الله، بلغة طفولية، زي ما القديس كيرلس السكندري قال: "نحن نتكلم عنه بالاسلوب البشري لانه لا توجد لدينا أي وسيلة أخري للتأمل في الأمور التي تعلو عنا." و التفسيرات بتعتمد برضه على ازاي كاتب النص بطبيعته البشرية فهم وترجم أعمال ربنا على إنها انتقام، وربط الأحداث ببعضها كنتائج أو مسببات، زي ما الناس في العصر الحديث ربطت موت السادات بوضعه للبابا شنودة في التحفظ وسجن وقتل مئات المعارضين.

مهم جدا هنا الإشارة لبعض الأبحاث والكتب الآبائية في السياق ده، اللي عايز يستزيد ممكن يقراهم، وأتمنى الناس تقراهم عشان نصحح مفاهيم مغلوطة كتير.

-        بحيرة النار والكبريت في الفكر الارثوذوكسي الآبائي، بقلم أشرف باشير. ملخص البحث ده إن فكرة الجحيم هو الحرمان من محبة ربنا والبعد عنه، وإن ربنا مش بيحرق الأشرار والخطاه ويولع فيهم ويعذبهم بالمفهوم البشري المحدود، وده بيخلينا نفهم روح النص مش حرفيته.
-        مفهوم الغضب الالهي في الفكر الارثوذوكسي الآبائي، بقلم أشرف باشير. البحث ده بيوضح استخدام البشر مجازيا لكلمات لوصف الله زي "الغضب" لو استخدمناها حرفيا بتدينا صورة مغالطة تماما عن جوهر الله الحقيقي، وإن ربنا مش بيغضب علينا لكن على الشر، وإن ربنا مش بيعادي البشر لكن الإنسان هو اللي بيعادي ربنا عن طريق معاداته للبر.
-        الله والشر والمصير، بقلم كوستي بندلي. الكتاب بيوضح مفهوم غضب الله وتأديبه للإنسان. والملخص هو إن غضب الله هو إن الإنسان يحرم نفسه من محبة الله وغفرانه فيدوق قسوة الحياة بعيد عنه "الحب يعمل بطريقتين مختلفتين فانه يصبح عذابا في الهالكين وفرحا في المطوبين" (ص 178). الكتاب برضه بيشرح أفكار كتيرة عن الدينونة وإزاي نفهم ونفسر سدوم وعمورة والهلاك اللي بيحصل "من جهة ربنا زي ما الناس فاكرة"، وأهمية فهم طريقة كاتب النص في حادثة زي "تحول امرأة لوط لعمود ملح" استخدم فيها وصف اسطوري شعبي عشان يوصل للقارىء فكرة إنه مايرجعش لورا في مسيرته مع ربنا.


هل يتعارض الغفران مع القصاص؟

الإجابة بالمختصر المفيد: لا. بس القصاص بأنهي طريقة ومفهوم وإحساس؟ الكلام اللي فات كله كنا بنتكلم عن مشاعرنا الداخلية ناحية الشر والأعداء، وأفعال الله الرحيمة وأفعالنا ناحيتهم. لكن في الكتاب المقدس والتاريخ بنلاقي مطالبة للإنسان إنه ينقذ غيره من الشر، ويطالب بحقه، ومايسكتش، في أكثر من موقف.

والقصاص هنا نوعين، أولهم النوع الأرضي اللي بيتمثل في المطالبة بالحقوق. في تدوينة كتبتها "الرب يقاتل عنكم وانتم تصمتون أي صمت؟" بتنتقد تماما الخنوع والسلبية في مواجهة حقوق المظلومين. ومثال على ده إن بولس طالب بحقوقه كمواطن روماني، والمسيح برضه قال "إن كنت قد تكلمت رديا فاشهد على الردي، وإن حسنا فلماذا تضربني؟" (يوحنا 18: 23) وأخد موقف ايجابي لما طرد الباعة من الهيكل (متى 21: 13).
  
تاني نوع للقصاص هو "عقاب الله" اللي هو مفهوم غلط زي ما شرحنا فهاستبدله بجملة "مسئولية الإنسان عن شره قدام الله". مهم هنا نفهم نظرة ربنا للخطاه كإله محب زي ما اتكلمنا من شوية، وكان أهم مثال على الخطاه دول "يهوذا"، ونظرة المسيح له كانت الشفقة والحسرة على حاله " ويل لذلك الرجل الذي به يسلم ابن الإنسان. كان خيرا لذلك الرجل لو لم يولد"(متى 26: 24). وحسب تفسير انجيل متى لأبونا متى المسكين، بيقول إن الجملة دي بتحمّل يهوذا مسئولية جريمته، خصوصا إنه ماقدمش توبة وندم رغم تأنيب المسيح له بالجملة دي، عشان كده أشفق عليه وقال ياريته ماتولد لأنه هايتحرم، بسبب أفعاله، من الحياة الأبدية.

ده معناه إن المسيحية بتسامح الأشخاص لجهلهم وبتشفق عن بعدهم عن الله اللي هو منبع الحب والخير، لكن معناه برضه إن في مجازاه على العمل اللي الإنسان هايعمله. مجازاة بمفهوم محبة الله، مش بطريقة العالم، بمعنى إن الله مش هاينزل عقابا على حد، لكن إن المجازاه دي اتسبب فيها الإنسان لنفسه، لأن الإنسان اختار طريق الشر وبعد عن ربنا فحرم نفسه بنفسه من الحياة والحب الأبدي في حضرة الآب " وتركت عني ناموسك برأيي. وتكاسلت عن وصاياك. أنا اختطفت لي قضية الموت " (القداس الاغريغوري). المجازاة دي مش معناها أبدا إنه هاتنزل نار من السما تاكله وهو عايش. "وأرسل أمام وجهه رسلا، فذهبوا ودخلوا قرية للسامريين حتى يعدوا له، فلم يقبلوه لأن وجهه كان متجها نحو أورشليم. فلما رأى ذلك تلميذاه يعقوب ويوحنا، قالا: يا رب، أتريد أن نقول أن تنزل نار من السماء فتفنيهم، كما فعل إيليا أيضا؟ فالتفت وانتهرهما وقال: لستما تعلمان من أي روح أنتما! لأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس، بل ليخّلص." (لوقا 9: 52-56). لو عايز تقرا أكتر عن فكرة الدينونة ممكن الرجوع لكتاب الله والشر والمصير، بقلم كوستي بندلي.


ختام

ممكن تقرا كل اللي أنا كاتباه وماتبقاش قادر تحسه أو تشوفه كلام فلسفي بحت، أنا شخصيا باحاول كتير أتغلب على مشاعر الكراهية والانتقام جوايا، ده طبيعي لأن ده جزء من جهادنا في العالم، كأنك في امتحان، بتتعلم كل شوية وبتحاول تتقدم. المشكلة مش هنا، المشكلة إنك تقرا كل ده بس ماتقتنعش أو تفضل مصدق إن ربنا بينتقم من البشر، وبيتبسط من الوجع وهلاك الخطاه، وانت كمان تتبسط بده، وتبقى منتظر ردوده على الاضطهاد والمذابح والظلم بنفس الطريقة دي والنظرة الضيقة الغير منصفة لله كإله محب، بذل نفسه عشان يحول عقوبة الخطية لخلاص موجه للعالم كله، للأشرار قبل الأبرار.

أخيرا، باشكر ربنا من قلبي إنه استخدم ناس بسيطة جدا أحسن مننا مليون مرة، شهداء ليبيا وأهاليهم اللي قلوبهم نقية، عشان يعلمنا ويورينا معنى الغفران والمحبة على الأرض، اللي هي بالأساس مستمدة من غفرانه هو ومحبته لجنس البشر كله.